من السلطة إلى العزلة: ساركوزي يدخل زنزانة بـ«تلفاز وكتب» ويصنع حدثًا غير مسبوق في تاريخ فرنسا الحديث

ساركوزي يبدأ خمس سنوات في زنزانة فاخرة

 

في سابقة غير معهودة في تاريخ الجمهورية الفرنسية، دخل الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي صباح الثلاثاء سجن “لاسانتيه” في العاصمة باريس، ليصبح أول رئيس فرنسي يقضي حكمًا بالسجن بعد إدانته بتهمة تلقي تمويل غير قانوني من ليبيا خلال حملته الانتخابية لعام 2007.

يأتي هذا التطور بعد مرور نحو شهر على صدور حكم يقضي بسجن الرئيس السابق خمس سنوات، في قضية هزّت الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية، لما تمثّله من ضربة قوية لرمز من رموز اليمين وللصورة الأخلاقية للمؤسسة السياسية الفرنسية.


لحظة الدخول إلى السجن

وصل ساركوزي، البالغ من العمر سبعين عامًا، إلى سجن “لاسانتيه” الواقع جنوب باريس وسط إجراءات أمنية مشددة. وأثناء دخوله، دوّى صدى أصوات سجناء من نوافذ زنازينهم مردّدين: «مرحبًا بك ساركوزي!».
وكان قد غادر منزله في حي راقٍ غرب العاصمة برفقة زوجته كارلا بروني، حيث تجمع عدد من أنصاره مطالبين بالإفراج عنه فورًا.

فريق الدفاع عن الرئيس السابق أعلن بعد ساعات من وصوله أنه قدّم طلبًا للإفراج الفوري، بينما ينتظر أن تنظر محكمة الاستئناف في الطلب خلال شهرين على الأكثر، وسط ترجيحات بعقد الجلسة في وقت أقرب.


قضية التمويل الليبي

تعود القضية إلى الاتهامات التي لاحقت ساركوزي ومقربين منه، أبرزهم كلود غيان وبريس أورتوفو، بإجراء اتصالات مع النظام الليبي في عهد معمر القذافي بغرض الحصول على تمويل لحملته الانتخابية.
ورغم أن المحكمة لم تثبت تحويل الأموال فعليًا إلى حساب الحملة، فإنها اعتبرت أن التحقيقات كشفت وجود «تحركات مالية من ليبيا» تهدف إلى تمويلها، ما شكّل في نظر القضاء “تآمرًا جنائيًا” يستوجب العقوبة.

وتشير وثائق القضية إلى لقاءات جرت في أواخر عام 2005 بين مبعوثي ساركوزي ومدير الاستخبارات الليبية السابق عبد الله السنوسي، المحكوم عليه بالسجن المؤبد غيابيًا في فرنسا لدوره في تفجير طائرة “يوتا” عام 1989، الذي أودى بحياة 170 شخصًا، من بينهم 54 فرنسيًا.


زنزانة العزلة في سجن “لاسانتيه”

يقضي الرئيس السابق أيامه في زنزانة انفرادية تبلغ مساحتها ما بين تسعة واثني عشر مترًا مربعًا، جُهّزت بعد تجديدات السجن بحمام خاص وتلفاز مقابل اشتراك شهري قدره 14 يورو، إضافة إلى هاتف أرضي للتواصل المحدود مع الخارج.
ويُسمح له بساعة نزهة يوميًا في باحة صغيرة مغلقة، كما يمكنه زيارة المكتبة أو إحدى قاعات الرياضة الثلاث الموجودة في السجن.

ويُحتجز ساركوزي في وحدة العزل الخاصة، وهي القسم المخصص للشخصيات الحساسة أو السجناء المعرّضين للخطر، حيث يُمنع الاختلاط بالنزلاء الآخرين، وتُفرض إجراءات مراقبة دقيقة خلال تحركاته داخل السجن.

وكان هذا السجن قد استقبل في السابق شخصيات معروفة مثل كارلوس الثعلب والزعيم البنمي مانويل نورييغا.

عبر منصة إكس (تويتر سابقًا)، كتب ساركوزي تعليقًا مقتضبًا بعد دخوله السجن قال فيه:

«لم يُسجن رئيس سابق للجمهورية، بل إنسان بريء».


ردود فعل ودعم سياسي

قرار إيداع الرئيس السابق السجن أثار صدمة بين صفوف اليمين الفرنسي، الذي يرى فيه شخصية رمزية لا تزال تمارس تأثيرًا سياسيًا.
الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون التقى ساركوزي قبل أيام من تنفيذ الحكم في قصر الإليزيه، وصرّح لاحقًا بأن اللقاء كان «طبيعيًا وإنسانيًا».

أما وزير العدل جيرالد دارمانان، المقرب من الرئيس السابق، فقد عبّر عن قلقه من «الظروف الأمنية» في السجن وأعلن نيّته زيارته قريبًا.

في حديث لصحيفة لوفيغارو، كشف ساركوزي أنه أخذ معه ثلاثة كتب ليقرأها خلال أسبوعه الأول خلف القضبان، بينها رواية “الكونت دو مونت كريستو” للكاتب ألكسندر دوما، التي تحكي قصة رجل سُجن ظلمًا وسعى للانتقام ممن خانه — في إشارة رمزية إلى شعوره بالظلم.


تحول في العدالة الفرنسية

يرى المراقبون أن هذا الحكم يمثل تحولًا عميقًا في الممارسة القضائية الفرنسية، إذ لم يسبق أن نُفّذ حكم بالسجن الفعلي بحق رئيس سابق للجمهورية.
ويعتبر خبراء القانون أن القضاء الفرنسي بدأ يعتمد بشكل متزايد على آلية “التنفيذ الفوري للأحكام” حتى أثناء مرحلة الاستئناف، في محاولة لردع الفساد واستعادة ثقة الرأي العام.

وبينما ينقسم الفرنسيون بين من يرى في الحكم انتصارًا للعدالة، ومن يعتبره تصفية سياسية، تبقى صورة ساركوزي — الرئيس السابق الذي حكم فرنسا بين 2007 و2012 — معلّقة بين مجد السلطة وظلال السجن.